تعديل

vendredi 18 avril 2014

قراءة في طريقة العرب في التعبير

مقـدمــــــــة
    ظل القرآن الكريم المنبع، الذي يغرف منه المسلمون علومهم عامة، والبلاغة خاصة.  إنه المعجزة البيانية الكبرى؛ وقفت في وجه بلغاء العرب، فأفحمتهم. فرض القرآن نفسه عليهم وعلىأذواقهم؛ فجعلهم يقولون:" إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغذق، وإن فرعه لجناة "(1).
    أحس العربي ـ و هو يتكلم سليقة ـ جمالية أسلوب القرآن الكريم، فوقف عنده مليا؛ ملاحظا أن ألفاظه متراصة، مصوغة في سياقات لا تحتمل غيرها. قال الجاحظ(255) :" … ألا ترى أن الله تبارك وتعالى  لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المذقع والعجز الظاهر؟ والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث"(2). وفي ذلك يقول أحمد بدوي:"يتأنق أسلوب القرآن في اختيار ألفاظه، ولما بين الألفاظ من فروق دقيقة في دلالتها، يستخدم كلا حيث يؤدي معناه في دقة فائقة، تكاد بها تؤمن بأن هذا المكان كأنما خلقت له تلك الكلمة بعينها، وأن كلمة أخرى لا تستطيع توفية المعنى الذي وفت به أختها، فكل لفظة وضعت لتؤدي نصيبها من المعنى أقوى أداء، ولذلك لا تجد في القرآن ترادفا، بل فيه كل كلمة تحمل اليك معنى جديدا"(3).
   اهتم العرب بنص القرآن اهتمامهم باللغة، لأنها " تزيد في العقل "(4). واعتبروا البيان الذي حث عليه القرآن ترجمان العلم وحياته وعماده (5).
   و في ظل التلاقحات البشرية، والتمازج الثقافي، الذي عرفته الامبراطورية الاسلامية؛ وجد المغرضون مدخلا للنيل من البيان العربي، برد أصوله الى الثقافة اليونانية. وفاتهم أن المسلمين عملوا ـ و هم في موضع قوة ـ على تحصين ذواتهم وعلومهم: بالتأليف مرة، وبإحداث قانون عام يحمي علومهم مرة أخرى، فأوجدوا  قانوني: "عمود الشعر" و "النظم".
   وليس "عمود الشعر" و"النظم" إلا وجهي مصطلح واحد هو "طريقة العرب" يهدف الى تحصين علوم اللسان العربية، ليتحصن بذلك القرآن والسنة (6).
   رفضوا لذلك ثقافة الفرس، وفلسفة يونان، وكل إبداع عربي ينهج نهج الفلسفة من التعقيد والغموض والتكلف .
   و كأني بالعربي وقد ألف السهولة، والوضوح في تراثه الشعري، والبيان في كلام ربه، ولما اطلع على ما وصله من آثار يونان وجده غثا غامضا، وعرا؛ عافه واعتبر ذلك طريقة العجم في البيان. ومن تم انعكس في ذهنه وتفكيره أن كل كلام لا يتسم بالوضوح، والسهولة، والرونق، والماء؛ فلسفة، ومن تم هو مرفوض لأنه خارج عن طريقة العرب في التعبير. فرفض لذلك شعر أبي تمام وغيره ممن يعتبرون المعنى أساسا في الشعر، و ينهجون الغموض والتعقيد في شعرهم.

أولا:  المناظرات و الاهتمام بثقافة الأمم الأخرى .
    عملت الفتوحات على توسيع رقعة الدولة الإسلامية، جغرافيا وبشريا ، فتمازجت لذلك الأجناس البشرية ـ تحت راية الإسلام ـ تمازجا قويا. واحتكت ثقافاتها وعاداتها و تقاليدها بعضها ببعض؛ فنتج عن ذلك ظاهرة التوليد "من نظام الرق والولاء … فقد أصبح البيت الإسلامي … عصبة أمم ينتج من النسل ما يحمل خصائص الأمم المختلفة "(7).
   وهذه الأمم لم تكن مسالمة، بل ناقمة على الحياة العربية: اجتماعيا و سياسيا، و فكريا. انتقدت عادات العرب في الحكم والسياسة، وطريقتهم في العيش و التفكير. يسمونهم "الرعاع والغثاء والغثر"(8) والأجلاف الجفاة (9) .
   وقفوا من نتاجهم الفكري موقف الساخر، وعابوا طريقتهم في بلاغتهم وإنشاد قصائدهم. فهذا أبو نواس يجهر في قصائده؛ قائلا :
     عـج للوقوف على راح وريحان     فما الوقوف على الأطلال من شأني
      ولا تبكين على رسم ولا طـلل     واقصد عقارا، كعين الديك ندماني (10)
   كما عابوا طريقتهم في التشبيه؛ قال الجاحظ على لسان صاحب الغلمان: " فإذا بلغ أحدهم جهده بكى على الدمنة و نعت المرأة، و يشبهها بالبقرة و الظبية … نعم حتى شبهها بالحية، ويسميها شوهاء وجرباء، مخافة العين عليها بزعمه"(11). وذلك ـ في نظرهم ـ راجع إلى كونهم " مع الوحوش والأحناش نشؤوا، فلا يعرفون غيرها "(12).
    كل ذلك هال العرب؛ لأن هؤلاء القوم ثقفوا اللغة العربية، وتعمقوا البحث فيها، و يزيدونهم أن لهم ثقافة يجهلها العربي كل الجهل. والرد عليهم يستدعي الوقوف على ثقافتهم وعاداتهم. فانكب العرب على تلك الثقافة، آخذين أنفسهم بالمنطق والفلسفة،  شاحذين عقولهم لنزالهم ومناظراتهم. فاعتبروا هذين العلمين منهجا لكل مناظر، والمعول عليه في ذلك التسلح بأمور الدين؛ قال الجاحظ: " وليس يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما "(13). هكذا اعتبر الجاحظ التسلح بأمور الدين شرطا ضروريا قبل التسلح بعلوم الفلسفة، حتى  يتبين للمناظر حجم هذا العلم، بالنظر الى  كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، واللغة العربية، وحتى لا ينخدع بهذه الثقافة الدخيلة.
    استطاع المتكلون إقناع هؤلاء وإفحامهم، سواء بالمناظرة، أو بالتأليف. واعتبر علم الكلام علقا نفيسا(14) "وكل علم عليه عيال" (15).
   ومن تم عمقوا البحث في شروط المناظرة، آخذين بعين الاعتبار فصاحة المتكلم، و بلاغة الخطاب، وإفهام المتلقي، فصاروا بذلك: " فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء" (16).


ثانيا: ثقافة الأمم الأخرى( الفلسفة والمنطق)في ميزان النقد العربي.
   يود هذا المحور الإجابة عن سؤال: هل وطد هذا الاندماج البشري، وهذه المناظرات الصلة بين علوم الفرس والهند و اليونان، وعلوم العرب؟.
   نقول: إن هذا التمازج الاجتماعي والفكري خلق هوة كبيرة بين علوم هذه الأمم وعلوم العرب، يمكن أن نستشف هذه الهوة في رفض هذه العلوم، واستحالة اعتمادها في نقد الشعر وإعجاز القرآن. يمكن إجمال أسباب الرفض هاته في النقاط التالية:
    ـ لا يمكن للمسلمين الاشتغال بالفلسفة وعندهم القرآن الكريم؛ أفضل الكتب، قال الجاحظ: " وأكثر من كتبهم نفعا، وأشرف منها خطرا، وأحسن موقعا، كتب الله تعالى، فيها الهدى والرحمة والإخبار عن كل حكمة … " (17).
         ولجماليته يرصعون بآياته كتبهم ، قال سعيد بن حميد : " إذا نزعت في كتابي بآية من كتاب الله تعالى أنرت إظلامه، و زينت  أحكامه، وأعذبت كلامه"(18).
    ـ كل ما هو موجود في كتبهم موجود في أشعار العرب؛ قال الجاحظ: " وقل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن وجدناه أو قريبا منه في أشعار العرب والأعراب، وفي معرفة أهل لغتنا وملتنا "(19).
       فالعرب يفتخرون بشعرهم، ويعدونه، معدن علمهم (20) وحكمتهم (21). به يخلدون مآثرهم على الدهر(22). ويعتبرونه ديوانهم الذي يرجعون اليه، كلما خفي عليهم شيء من القرآن.
    ـ الفلسفة تلهي عن الاشتغال بالقرآن والسنة والشعر، قال ابن النديم(438)، قال ابن درستويه: "ورأيت ابن السراج يوما وقد حضر عند الزجاج مسلما عليه بعد موت المبرد فسأل رجل الزجاج عن مسألة فقال لابن السراج أجبه يا أبا بكر فأجابه فأخطأ فانتهره الزجاج، وقال: والله لو كنت في منزلي ضربتك ولكن المجلس لا يحتمل هذا وقد كنا نشهد بالذكاء والفطنة لأبي الحسن بن رجاء وأنت تخطئ في مثل هذا، فقال: ضربتني يا أبا اسحاق وأدبتني وأنا تارك ما درست مذ قرأت هذا الكتاب يعني كتاب سيبويه لأني تشاغلت عنه بالمنطق والموسيقى " (23).
    ـ الاشتغال بها يعد عيبا، قال أبو حيان (414): "وأما علي بن عيسى فعالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به " (24).
    ـ أرسطو لم يأت بشيء، وغير موصوف بالبيان؛ قال الجاحظ:"بكي اللسان غير موصوف بالبيان"(25)
    وقال ابن قتيبة: "ولو أن مؤلف حد المنطق بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض لعد نفسه من البكم، أو يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لأيقن أن للعرب الحكمــة و فصــــل الخطاب" (26).
    ـ المنطق غير قادر على الوقوف على جمالية العربية، قال أبو سعيد السيرافي(368) لأبي بشر متى بن يونس (328): " فحدثني عن الواو ما حكمه؟ فاني أريد أن أبين أن تفخيمـك للمنطق لا يغني عنك شيئا، وأنت تجهل حرفا واحدا في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان "(27).
   فأحجم بشر بن متى و تبين له أن: "المنطق عاجز عن إدراك ما تحفل به الجملة العربية من أبعاد ودلالات  وما تحتويه من ظلال و جماليات" (28).
    ـ الفلسفة ليست استجابة طبيعية لمتطلبات الثقافة العربية؛ حكى ابن النديم أنه من السبب الذي كثرت من أجله كتب الفلسفة، أن المأمون رأى أرسطاليس في منامه(29)، ثم قال: " فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب" (30).
    ـ فساد الترجمة:  إن مترجمي أرسطو لا يحسنون اليونانية (31)، و يعتمدون السريانية (32) ويجهلون حقيقة اللغة العربية (33).
   فالنساطرة واليعاقبة نقلوا كتب اليونان إلى السريانية "وكانوا هم أيضا البادئين بنقل هذه الكتب من السريانية إلى العربية وشرحها "(34). ولم يكونوا مؤتمنين على ما نقلوه من هذا التراث: "بل غيروا فيه، وحرفوا، وكثير من الأخطاء التي وقع فيها العرب كان منشؤه هذا الخطأ السرياني"(35) لعدم توفر شروط المترجم ـ كما رسمها الجاحظ ـ في قوله:" ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء و غاية " (36).
    ـ عدم الفهم لكتب اليونان: وعدم الفهم، أتى من ناحيتين:
   الأولى: فساد الترجمة؛ قال ابن قتيبة: "ترجمة تروق بلا معنى واسم يهول بلا جسم" (37).
   الثانية : طبيعة هذه العلوم نفسها، قال أبو سعيد السيرافي: "هذا كله تخليط وزرق ورعد وبرق، وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلا، وتستذلوا عزيزا " (38).
    وفي ذلك يقول الجاحظ :"ألا ترى أن كتاب المنطق الذي قد وسم بهذا الاسم، لو قرأته على جميع خطباء الأمصار وبلغاء الأعراب لما فهموا أكثره "(39). فما تحمله لهم هذه الكتب سوى "تصورات غريبة غير مفهومة " (40)؛ لما انتابها من " النقص، والبتر، والتفكك والغموض، والاستطراد والتكثيف"(41). فنظروا إلى هاته العلوم على أنها " خرافات وترهات، ومغالق وشبكات" (42). فنصحوا بالابتعاد عنها؛ قال أبوحيان التوحيدي: "ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله"(43).
     ـ شهادة الزمخشري(528) بأن الفلسفة تجر إلىالغواية؛ قال في تفسير قوله تعالى: (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) (البقرة:102) :"وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية "(44).ًَ 
      ـ شهادة ابن الأثير(637) بأن "صاحب هذا العلم من النظم والنثر بنجوة من ذلك كله، وأنه لا يحتاج إليه أبدا "(45)، وبأن بلاغة اليونان لغو؛ قال: "ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا، وانساق الكلام إلى شيء ذكره لأبي علي بن سينا في الخطابة والشعر، وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني يسمى (اللاغوديا) وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، ووقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته، فٌإنه طول فيه وعرض، كأنـه يخاطب بعـض اليونان، وكـل الذي ذكره لغو لا يستفيد له صاحب الكلام العربي شيئا "(46). وينفي أن يكون الإبداع العربي ظلا للفلسفة اليونانية؛ قال:"هذا شيء لم يكن، ولا علم أبو نواس شيئا منه، ولا مسلم بن الوليد، ولا أبوتمام ولاالبحتري، ولاأبوالطيب المتنبي، ولا غيرهم!" (47). وينفي عن نفسه أن يكون ألم بفلسفة يونان وحكمتها في حصر المعاني (48).
     ـ شهادة جلال الدين السيوطي (911) بأن هناك طريقتان للبلاغة؛ الأولى طريقة العرب البلغاء، والثانية طريقة العجم وأهل الفلسفة. وأنه اهتم بالبلاغة العربية؛ قال: " ورزقت التبحر في(….) المعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة "(49). فرفض بذلك طريقة العجم وأهل الفلسفة في البلاغة.
    ـ شهادة الآلوسي(1270) بأن المنطق"صناعة أغنى الله تعالى العرب عنها"(50)، وبأنه لا يدرك غوامض الكتاب العزيز إلا من كان متبحرا في علوم اللسان العربي، مبتعدا عن الفلسفة؛ قال:"…فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أوفى مرتع، وفي حياضها أصفى مكرع يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقي من علم التفسير ذروته ويمتطي منه صهوته، وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس واختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب"(51)هكذا نرى الآلوسي ـ وهومتأخرـ معجبا بجمالية العلوم العربية، معتبرا إياها الجسرالآمين للعبور إلى معاني الكتاب العزيز، مصورا إياها في أجمل صورة وأروع منظر: ريش الطواويس، أما الفلسفة بالنسبة للعلوم العربية فلا تعدو أن تكون في أقبح منظر: شوك القنافذ.  
    استغنى العرب عن هذا كله ، وحصنوا ذاتهم وعلومهم؛ سواء بالتأليف في مآثرهم، أو بجمع اللغة وتأسيس علم النحو، والاحتكام الى قانوني: "عمود الشعر"و "النظم" اللذين كان لهما الفضل في تحصين علم البيان من كل دخيل. هذا ما سنراه في النقطة الثالثة من هذا العرض.

ثالثا : تحصين العلوم و الهوية العربيين
  عمل الاختلاط البشري على إيجاد فئة من الناس يسمون ، مولدين ، و شعوبيين . يهدفون الى "تحطيم معنويات المسلمين و دس الأكاذيب و المفتريات في أصول دينهم " (52) من أجل تمزيق وحدة الأمة  (53) .
   كانوا يرمون العرب بالنقص كما فعل أبو عبيدة (210) اليهودي الأصل ، قال ابن النديم : " و عمل كتاب المثالب يطعن فيه على بعض أنساب النبي عليه السلام " (54) ، و أورد له كذلك كتبا منها : كتاب " مثالب باهلة " و " أدعياء العرب " و " لصوص العرب " و " فضائل الفرس "(55) .
   ووعيا من العرب بخطورة هذا الدخيل ، و بما سيلحقه من أضرار بالأمة العربية من تهميش أولا، وبما سيلحق العلوم العربية من ذوبان في غيرها ثانيا ، فإنهم عمدوا إلى تحصين ذواتهم وعلومهم بجمع اللغة، وتأليف المعاجـم ، و تأسيس علم النحو ، و جمع دواوين الشعراء ، وإحداث قانون "عمود الشعر " ترسيخا و تثبيتا لطريقة العرب في التعبير .
     قانون "عمود الشعر"
   قال أحمد أمين: " إن لكل أمة أدبا يختلف عن أدب الأمم الأخرى، و أدب كل أمة منتزع من طبيعة إقليمها، و تاريخها، و خيالاتها، و ملوكها، و سوقتها، و عقلائها، و سخفائها، وصلحائها، ومجرميها و من نظامها السياسي، و على الجملة من كل شيء يتصل بحياتها " (56) .
   كذلك للعرب أدبهم الخاص الذي يميزهم عن باقي الأمم ؛ نشأ في كنفهم منذ الجاهلية، أحبوه، ومنحوه من القوة ما يمكنه من السريان في شرايينهم؛ فكانوا جسدا و كان روحهم.
   و أمام هذه التحديات التي أوجدتها البيئة العربية الحديثة، بحثوا عن قانون عام يحصن الشعر والبلاغة العربيين من كل دخيل ـ خصوصا فلسفة يونان ـ فألف في ذلك المبرد (286) و ثعلب (291) كتاب" قواعد الشعر" ، و ألف ابن طباطبا (322) "عيار الشعر" ، إلا أن كل هذه القوانين لم تستطع ذلك ، ولم يحققوا غاياتهم إلا مع " عمود الشعر ".
   ف "عمود الشعر " ليس مجرد مصطلح نقدي، إنه يتعدى ذلك إلى كونه منهجا متكاملا في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب، يرى إلى الخصائص العامة والمميزة للبيان العربي الأصيل في إطار سمات حددها فيما يعرف ب " طريقة العرب " و فق منحى أسلوب القرآن الكريم . مع رفض كل دخيل على الثقافة العربية ،و اعتباره نشازا داخل التجربة الإبداعية و النقدية و البلاغية.
   إن " عمود الشعر " أسس مفاهيمه التي يشتغل بها على الوضوح، و التناسب، والطبع، والفخامة، والجزالة، و السبك الجيد… معتمدا المفارقات التي لاحظها العرب و انتقدوا على منوالها فلسفة يونان؛ لما يكتنفها من غموض، و تفاوت، و تكلف، و ركاكة، و تكثيف …
   قال الآمدي (371): " و ليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي ، و قرب المأخذ ، واختيار الكلام ، ووضع الألفاظ في مواضعها ، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله ، و أن تكون الاستعارات و التمثيلات لائقة  لما استعيرت له و غير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف . قالوا و هذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب صاحب النثر، لأن الشعر أجوده أبلغه ، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى و إدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف ، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة ، و لا تنقص نقصانا يقف دون الغاية " (57) .
   هكذا تصوروا البلاغة و الجودة . أما إذا فارق الشاعر هذه الطريقة ، واعتمد فلسفة اليونان ،وحكمة الفرس فانهم لا يسمونه بليغا ،وإنما هو أحق أن يسمى حكيما، قال الآمدي :" وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة ،وكانت عبارته مقصرة عنها ، و لسانه غير مدرك لها حتى يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونان وحكمة الهند أو أدب الفرس ،و يكون أكثر ما يورد منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب، وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من صحيح الوصف و سليم النظم، قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة يونان ومعان لطيفة حسنة ، فان شئت دعوناك حكيما، أو سميناك فيلسوفا ، و لكن لا نسميك شاعرا ، و لا ندعوك بليغا ، لأن  طريقتك ليست على طريقة العرب ، ولا على مذاهبهم ، فان سميناك  بذلك لم نلحقك بدرجة البــــلغاء ولا المحسنين الفصحاء" (58).
     رفضوا لذاك كل شعر قالته الشعراء ينطبق عليه مصطلح من المصطلحات التي وسمت بها الترجمة العربية للفلسفة اليونانية، قال القاضي الجرجاني:" فخبرني هل تعرف شعرا أحوج إلى تفسير بوقراط وتأويل أرسطو ليس من قوله :
               جهمية الأوصاف إلا أنهم        قد لقبوها جوهر الأشياء " (59) .
   و عابوا أصحاب المعنى ، لأن " المعنى في الشعر هو الماهية التي تحدث عنها أرسطو " (60)، وكانت تلك طريقة أبي تمام و مناصريه ، لأنهم كانوا أميل " الى التدقيق و فلسفي الكلام " (61) .

خاتمـــــــــــــــة : 
   وختاما أقول إذا كانت البلاغة تهدف أن يكون التعبير جميلا ، أنيقا ؛ يصل الى القلب بأيسر السبل، والفلسفة تهدف الى مخاطبة العقل عن طريق مقاييس منطقية جافة. أقول ـ هل يمكن أن تجتمع البلاغة وهي تخاطب الوجدان، بالفلسفة و هي تخاطب العقل ؟ .
   قد يكون ذلك ممكنا، أما الأديب العربي في عهد قوته كان يمنع هذا التلاقي، و لا يقول به؛ لأن البلاغة يتوسل بها إلى تذوق كلام ربه، و سنة نبيه، و لغة قومه.
   نعم، كان يقرأ و يتذوق فلسفته الخاصة به، التي أنتجها محيطه، و تعبر عن ثقافته. يحبذ فلسفة طرفة ابن العبد و غيره من الشعراء ، الذين تنطوي أشعارهم على مسحة فلسفية أصيلة .
  أما الفلسفة التي من نتاج يونان، و الهند؛ فإنه لا يستسيغها، لأنها تحمل أفكارا لا تمت إلى محيطه بصلة. نعم في عهد ضعف الدولة الاسلامية، و نضوب القريحة العربية، تسرب شيء من المنطق والفلسفة الأرسطيين إلى البلاغة العربية، كما الشأن في مفتاح العلوم وشروحه وتلخيصاته، فلم نجد فيها ذلك الرواء و الماء الذي عهدناه في كتابات الجاحظ، و ابن قتيبة ، والآمدي، والقاضي عبد العزيز الجرجاني، وعبد القاهرالجرجاني، وابن الأثير…
   فالفلسفة لا يمكن أن تكون تعبيرا جماليا، كما أن البلاغة لا يمكن أن تكون تعبيرا عقليا؛ لهذا يجب أن ننظر إلي كل منهما في مجاله الخاص به.


0 commentaires :

Enregistrer un commentaire

شارك